Monday, April 14, 2008

لا يحسب اليوم بالساعات ...

الرابعة فجرا ..
تسلل صوت الأذان إلى أذنها لتقوم و تحل عقدة ... نهضت و ذهبت لتتوضأ لتنحل العقدة الأخرى ... صلت ركتي الرغيبة و من بعدها ركعتي الفجر لتحل العقدة الثالثة ثم جلست تبكي .
" يا رب ! .. انت العالم بحالي و حال عيالي .. لا يقو لساني على الدعاء و قلبي ينفطر من البكاء .. ساعدني يا رب أربي عيالي .. أعني على ذكرك بذكري و عيالي لك و شكرك في السراء قبل الضراء .. يا رب أعني على طاعتك .. "
و تكمل بقية دعائها بكاء , فهو سميع عليم عالم بحالها من غير أن تقوله.

الخامسة صباحا ..
يتأفف أطفالها , لكنهم ينهضون برغم كل شئ .. برغم الجوع و التعب و قلة النوم و مر العيشة .
" أمامكم يوم طويل يا أولادي .. أريد أن أفخر بكم في نهاية اليوم .. اسمعوا كلام مدرسيكم و لا تتشاقوا أو تتعاركوا مع أقرانكم .. افشوا السلام و تمتعوا بيومكم .. ربنا يكرمكم . "
يقترب أصغرهم منها و يسألها ,
" كيف نتمتع يا أمي و قدمي تؤلمني من طول السير إلى المدرسة ؟ .. لا أريد الذهاب .. "
" اذهب اليوم من أجلي .. "
" و غدا ؟ "
" اذهب من أجلك لأجل تتعلم . "
" و بعده ؟ "
" اذهب لأجل تعلم غيرك . "
" و قدمي ستظل تؤلمني ؟ "
تبسمت في حنو و قالت :
" ألم قدميك هو ما يجعلك تثاب .. بدون الألم لن تتعلم الراحة و الراحة في العلم . "

السادسة صباحا ..
أخذت مكانها في الطابور ككل يوم تنظر أمامها إلى شباك حديد مغلق ترجوه أن يفتح بقدرة القادر ..
" أخبريني يا بنيتي .. متى يفتح المخبز ؟ "
نظرت إلى سيدة في عقد من عمرها لا تعرف كيف تعد إليه و قالت و هي تسندها ,
" يا خبر يا خالة ! .. لماذا تتعبين نفسك و تنزلين لتقفي في طابور العيش ؟ "
" عندك عيال ؟ "
" ثلاثة. "
" انا ما عندي و لا واحد يساعدني .. كنت أبغى واحدا أربيه و أعلمه ليساعد أمه المسنة في يوم كهذا , لكني أشكر الله الذي حرمني هذه النعمة فهي نقمة في زمن كزماننا هذا , بلا ملامح و بلا .. "
و تبكي العجوز و معها يبكي قلب كل من يسمعها ..
يبدأ أحدهم في النقر على واجهة المخبز و يشاركه آخر و آخرى و يبدأ الصياح و الصراخ و لا ينتهي ..

العاشرة صباحا ..
تأخذ مكانها على قارعة الطريق و تنادي من يبغى منديلا .. تدعو لهذه و ذاك و لكن كل في حاله يكفيه و يزيد.
خمسون قرشا من هذا و خمس و عشرين من هذا و هي تحمد ربها على القروش التي تتجمع في حجرها.
جنيه ثم اثنين و ثلاثة و الساعات تتوالى ..
آذان الظهر من بعيد يتردد في الميدان , لكن الحياة لا تتوقف , بل تبدأ عند الصاغة حيث ذهبت .
" صباح الخير يا خواجة .. بكم هذه ؟ "
و تخلع من يدها الساعة ..
لم تكن تبكي هذه المرة ساعتها .. بل كانت تبكي المستقبل الذي تعلم أنه قريب حين تحتاج أن تبيع شيئا آخر و لن تجد.
" لا تساوي الساعة الكثير يا ستي .. لا أرى لزاما لبيعها فقد تحتاجينها .. "
" أنا لا أرى لزاما لها .. يومي لا يحسب بالساعات .. "

بعد العصر بسنوات عدة ..
تعود إلى بيتها لا منهكة بل ملأى بالنشاط فالآن يبدأ يومها و عملها الحق ..
تطمئن على عيالها .. أكلهم .. مذاكرتهم .. ترتب البيت و تعد أرغفة الخبز.
يأتيها الصغير و يخبرها كل ما تعلمه اليوم في المدرسة و تضحك من قلبها تضحك .. صغيرها يحب العلم و يتمتع به و يمتعها به ..
يتبعه الأوسط الصموت دائما .. و لا يتكلم بل ينحني على يد أمه يقبلها و يمضي ..
تذهب هي إلى أكبرهم و لا تجده .. تبحث عنه في حجرة تلو حجرة و لا تجده .. تجلس تنتظره عند الشباك حتى ساعة لا تعلمها فاليوم لا يحسب بالساعات .. قلبها يرتجف من هول ما يدور بخلدها و لكنها لا تعلم ما هي فاعلة ..
" أين كنت ؟ "
يطرق إلى الأرض صامتا ..
" أين كنت ؟ "
يضع يده في جيبه و يخرجها بكومة فلوس و يمدها إلى أمه منكس الرأس ..
" عملت بهذه لأجل تبتاعي ساعة جديدة .. "
يقذف بالمال بين يديها و يهرع إلى غرفته تاركا إياها من جديد تبكي ..

الرابعة فجرا ..
تعلم أنها الرابعة إذ ترتدي ساعة عندها أغلى من الألماس .. تخلعها من يدها ككل يوم و تضعها أمامها على الأرض تنظر إليها و تبكي الساعات التي تعدها من عمرها و عمر أولادها في زمن لا تبغى حساب ساعاته.
يقترب منها رجلها , يقبل رأسها و يجلس بجوارها ينظر للساعة ..
" العيال كبروا .. "
يزداد الألم في صدرها ..
" تظننا نجحنا ؟ "
" لا أعلم .. هذا زمن عجيب .. أظننا حاولنا . "
" أبذلنا كل ما في استطاعتنا ؟ "
"......"
" أريد أن أربيهم كما يجب ..
أن يتعلموا و يعلموا ..
يراعوا العباد قبل رب العباد ..
يقنعوا بما بين أيديهم و لا تحدهم قناعتهم من الطموح ..
أريد أن أعلمهم قيمة يومهم الحقة .. ليست بالساعة فاليوم لا يحسب بالساعات .. "


شريف الهراوي - القاهرة
23 مارس 2008


Labels:

2 Comments:

Blogger insomniac said...

it's BEAUTIFUL and touching...

good work :)

April 14, 2008 at 2:28 PM  
Blogger Veeeva said...

the story is narrated based on what time it is and as weird as it may seem, it stressed on what the title wants to deliver.
and thats why I liked it :)

April 15, 2008 at 3:32 PM  

Post a Comment

<< Home