لا يحسب اليوم بالساعات ...
الرابعة فجرا ..
تسلل صوت الأذان إلى أذنها لتقوم و تحل عقدة ... نهضت و ذهبت لتتوضأ لتنحل العقدة الأخرى ... صلت ركتي الرغيبة و من بعدها ركعتي الفجر لتحل العقدة الثالثة ثم جلست تبكي .
" يا رب ! .. انت العالم بحالي و حال عيالي .. لا يقو لساني على الدعاء و قلبي ينفطر من البكاء .. ساعدني يا رب أربي عيالي .. أعني على ذكرك بذكري و عيالي لك و شكرك في السراء قبل الضراء .. يا رب أعني على طاعتك .. "
و تكمل بقية دعائها بكاء , فهو سميع عليم عالم بحالها من غير أن تقوله.
الخامسة صباحا ..
يتأفف أطفالها , لكنهم ينهضون برغم كل شئ .. برغم الجوع و التعب و قلة النوم و مر العيشة .
" أمامكم يوم طويل يا أولادي .. أريد أن أفخر بكم في نهاية اليوم .. اسمعوا كلام مدرسيكم و لا تتشاقوا أو تتعاركوا مع أقرانكم .. افشوا السلام و تمتعوا بيومكم .. ربنا يكرمكم . "
يقترب أصغرهم منها و يسألها ,
" كيف نتمتع يا أمي و قدمي تؤلمني من طول السير إلى المدرسة ؟ .. لا أريد الذهاب .. "
" اذهب اليوم من أجلي .. "
" و غدا ؟ "
" اذهب من أجلك لأجل تتعلم . "
" و بعده ؟ "
" اذهب لأجل تعلم غيرك . "
" و قدمي ستظل تؤلمني ؟ "
تبسمت في حنو و قالت :
" ألم قدميك هو ما يجعلك تثاب .. بدون الألم لن تتعلم الراحة و الراحة في العلم . "
السادسة صباحا ..
أخذت مكانها في الطابور ككل يوم تنظر أمامها إلى شباك حديد مغلق ترجوه أن يفتح بقدرة القادر ..
" أخبريني يا بنيتي .. متى يفتح المخبز ؟ "
نظرت إلى سيدة في عقد من عمرها لا تعرف كيف تعد إليه و قالت و هي تسندها ,
" يا خبر يا خالة ! .. لماذا تتعبين نفسك و تنزلين لتقفي في طابور العيش ؟ "
" عندك عيال ؟ "
" ثلاثة. "
" انا ما عندي و لا واحد يساعدني .. كنت أبغى واحدا أربيه و أعلمه ليساعد أمه المسنة في يوم كهذا , لكني أشكر الله الذي حرمني هذه النعمة فهي نقمة في زمن كزماننا هذا , بلا ملامح و بلا .. "
و تبكي العجوز و معها يبكي قلب كل من يسمعها ..
يبدأ أحدهم في النقر على واجهة المخبز و يشاركه آخر و آخرى و يبدأ الصياح و الصراخ و لا ينتهي ..
العاشرة صباحا ..
تأخذ مكانها على قارعة الطريق و تنادي من يبغى منديلا .. تدعو لهذه و ذاك و لكن كل في حاله يكفيه و يزيد.
خمسون قرشا من هذا و خمس و عشرين من هذا و هي تحمد ربها على القروش التي تتجمع في حجرها.
جنيه ثم اثنين و ثلاثة و الساعات تتوالى ..
آذان الظهر من بعيد يتردد في الميدان , لكن الحياة لا تتوقف , بل تبدأ عند الصاغة حيث ذهبت .
" صباح الخير يا خواجة .. بكم هذه ؟ "
و تخلع من يدها الساعة ..
لم تكن تبكي هذه المرة ساعتها .. بل كانت تبكي المستقبل الذي تعلم أنه قريب حين تحتاج أن تبيع شيئا آخر و لن تجد.
" لا تساوي الساعة الكثير يا ستي .. لا أرى لزاما لبيعها فقد تحتاجينها .. "
" أنا لا أرى لزاما لها .. يومي لا يحسب بالساعات .. "
بعد العصر بسنوات عدة ..
تعود إلى بيتها لا منهكة بل ملأى بالنشاط فالآن يبدأ يومها و عملها الحق ..
تطمئن على عيالها .. أكلهم .. مذاكرتهم .. ترتب البيت و تعد أرغفة الخبز.
يأتيها الصغير و يخبرها كل ما تعلمه اليوم في المدرسة و تضحك من قلبها تضحك .. صغيرها يحب العلم و يتمتع به و يمتعها به ..
يتبعه الأوسط الصموت دائما .. و لا يتكلم بل ينحني على يد أمه يقبلها و يمضي ..
تذهب هي إلى أكبرهم و لا تجده .. تبحث عنه في حجرة تلو حجرة و لا تجده .. تجلس تنتظره عند الشباك حتى ساعة لا تعلمها فاليوم لا يحسب بالساعات .. قلبها يرتجف من هول ما يدور بخلدها و لكنها لا تعلم ما هي فاعلة ..
" أين كنت ؟ "
يطرق إلى الأرض صامتا ..
" أين كنت ؟ "
يضع يده في جيبه و يخرجها بكومة فلوس و يمدها إلى أمه منكس الرأس ..
" عملت بهذه لأجل تبتاعي ساعة جديدة .. "
يقذف بالمال بين يديها و يهرع إلى غرفته تاركا إياها من جديد تبكي ..
الرابعة فجرا ..
تعلم أنها الرابعة إذ ترتدي ساعة عندها أغلى من الألماس .. تخلعها من يدها ككل يوم و تضعها أمامها على الأرض تنظر إليها و تبكي الساعات التي تعدها من عمرها و عمر أولادها في زمن لا تبغى حساب ساعاته.
يقترب منها رجلها , يقبل رأسها و يجلس بجوارها ينظر للساعة ..
" العيال كبروا .. "
يزداد الألم في صدرها ..
" تظننا نجحنا ؟ "
" لا أعلم .. هذا زمن عجيب .. أظننا حاولنا . "
" أبذلنا كل ما في استطاعتنا ؟ "
"......"
" أريد أن أربيهم كما يجب ..
أن يتعلموا و يعلموا ..
يراعوا العباد قبل رب العباد ..
يقنعوا بما بين أيديهم و لا تحدهم قناعتهم من الطموح ..
أريد أن أعلمهم قيمة يومهم الحقة .. ليست بالساعة فاليوم لا يحسب بالساعات .. "
تسلل صوت الأذان إلى أذنها لتقوم و تحل عقدة ... نهضت و ذهبت لتتوضأ لتنحل العقدة الأخرى ... صلت ركتي الرغيبة و من بعدها ركعتي الفجر لتحل العقدة الثالثة ثم جلست تبكي .
" يا رب ! .. انت العالم بحالي و حال عيالي .. لا يقو لساني على الدعاء و قلبي ينفطر من البكاء .. ساعدني يا رب أربي عيالي .. أعني على ذكرك بذكري و عيالي لك و شكرك في السراء قبل الضراء .. يا رب أعني على طاعتك .. "
و تكمل بقية دعائها بكاء , فهو سميع عليم عالم بحالها من غير أن تقوله.
الخامسة صباحا ..
يتأفف أطفالها , لكنهم ينهضون برغم كل شئ .. برغم الجوع و التعب و قلة النوم و مر العيشة .
" أمامكم يوم طويل يا أولادي .. أريد أن أفخر بكم في نهاية اليوم .. اسمعوا كلام مدرسيكم و لا تتشاقوا أو تتعاركوا مع أقرانكم .. افشوا السلام و تمتعوا بيومكم .. ربنا يكرمكم . "
يقترب أصغرهم منها و يسألها ,
" كيف نتمتع يا أمي و قدمي تؤلمني من طول السير إلى المدرسة ؟ .. لا أريد الذهاب .. "
" اذهب اليوم من أجلي .. "
" و غدا ؟ "
" اذهب من أجلك لأجل تتعلم . "
" و بعده ؟ "
" اذهب لأجل تعلم غيرك . "
" و قدمي ستظل تؤلمني ؟ "
تبسمت في حنو و قالت :
" ألم قدميك هو ما يجعلك تثاب .. بدون الألم لن تتعلم الراحة و الراحة في العلم . "
السادسة صباحا ..
أخذت مكانها في الطابور ككل يوم تنظر أمامها إلى شباك حديد مغلق ترجوه أن يفتح بقدرة القادر ..
" أخبريني يا بنيتي .. متى يفتح المخبز ؟ "
نظرت إلى سيدة في عقد من عمرها لا تعرف كيف تعد إليه و قالت و هي تسندها ,
" يا خبر يا خالة ! .. لماذا تتعبين نفسك و تنزلين لتقفي في طابور العيش ؟ "
" عندك عيال ؟ "
" ثلاثة. "
" انا ما عندي و لا واحد يساعدني .. كنت أبغى واحدا أربيه و أعلمه ليساعد أمه المسنة في يوم كهذا , لكني أشكر الله الذي حرمني هذه النعمة فهي نقمة في زمن كزماننا هذا , بلا ملامح و بلا .. "
و تبكي العجوز و معها يبكي قلب كل من يسمعها ..
يبدأ أحدهم في النقر على واجهة المخبز و يشاركه آخر و آخرى و يبدأ الصياح و الصراخ و لا ينتهي ..
العاشرة صباحا ..
تأخذ مكانها على قارعة الطريق و تنادي من يبغى منديلا .. تدعو لهذه و ذاك و لكن كل في حاله يكفيه و يزيد.
خمسون قرشا من هذا و خمس و عشرين من هذا و هي تحمد ربها على القروش التي تتجمع في حجرها.
جنيه ثم اثنين و ثلاثة و الساعات تتوالى ..
آذان الظهر من بعيد يتردد في الميدان , لكن الحياة لا تتوقف , بل تبدأ عند الصاغة حيث ذهبت .
" صباح الخير يا خواجة .. بكم هذه ؟ "
و تخلع من يدها الساعة ..
لم تكن تبكي هذه المرة ساعتها .. بل كانت تبكي المستقبل الذي تعلم أنه قريب حين تحتاج أن تبيع شيئا آخر و لن تجد.
" لا تساوي الساعة الكثير يا ستي .. لا أرى لزاما لبيعها فقد تحتاجينها .. "
" أنا لا أرى لزاما لها .. يومي لا يحسب بالساعات .. "
بعد العصر بسنوات عدة ..
تعود إلى بيتها لا منهكة بل ملأى بالنشاط فالآن يبدأ يومها و عملها الحق ..
تطمئن على عيالها .. أكلهم .. مذاكرتهم .. ترتب البيت و تعد أرغفة الخبز.
يأتيها الصغير و يخبرها كل ما تعلمه اليوم في المدرسة و تضحك من قلبها تضحك .. صغيرها يحب العلم و يتمتع به و يمتعها به ..
يتبعه الأوسط الصموت دائما .. و لا يتكلم بل ينحني على يد أمه يقبلها و يمضي ..
تذهب هي إلى أكبرهم و لا تجده .. تبحث عنه في حجرة تلو حجرة و لا تجده .. تجلس تنتظره عند الشباك حتى ساعة لا تعلمها فاليوم لا يحسب بالساعات .. قلبها يرتجف من هول ما يدور بخلدها و لكنها لا تعلم ما هي فاعلة ..
" أين كنت ؟ "
يطرق إلى الأرض صامتا ..
" أين كنت ؟ "
يضع يده في جيبه و يخرجها بكومة فلوس و يمدها إلى أمه منكس الرأس ..
" عملت بهذه لأجل تبتاعي ساعة جديدة .. "
يقذف بالمال بين يديها و يهرع إلى غرفته تاركا إياها من جديد تبكي ..
الرابعة فجرا ..
تعلم أنها الرابعة إذ ترتدي ساعة عندها أغلى من الألماس .. تخلعها من يدها ككل يوم و تضعها أمامها على الأرض تنظر إليها و تبكي الساعات التي تعدها من عمرها و عمر أولادها في زمن لا تبغى حساب ساعاته.
يقترب منها رجلها , يقبل رأسها و يجلس بجوارها ينظر للساعة ..
" العيال كبروا .. "
يزداد الألم في صدرها ..
" تظننا نجحنا ؟ "
" لا أعلم .. هذا زمن عجيب .. أظننا حاولنا . "
" أبذلنا كل ما في استطاعتنا ؟ "
"......"
" أريد أن أربيهم كما يجب ..
أن يتعلموا و يعلموا ..
يراعوا العباد قبل رب العباد ..
يقنعوا بما بين أيديهم و لا تحدهم قناعتهم من الطموح ..
أريد أن أعلمهم قيمة يومهم الحقة .. ليست بالساعة فاليوم لا يحسب بالساعات .. "
شريف الهراوي - القاهرة
23 مارس 2008
23 مارس 2008
Labels: حكايا